دراسات إسلامية

في المال حقّ سوى الزكاة

 

  

 

 

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

 

      الزكاة هي الحق الواجب في المال، متى قامت بحاجة الفقراء، وسدت خلة المُعْوِزين البائسين، وأطمعتهم من جوع وآمنتهم من خوف، أما إذا لم تَكْف الزكاة، ولم تَفِ بحاجة المحتاجين، وجب في المال حق آخر سوى الزكاة. وهذا الحق لا يتقيد ولا يتحدد إلا بالكفاية، فيُؤْخَذ من مال الأغنياء القدر الذي يقوم بكفاية الفقراء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن في المال حقًا سوى الزكاة) تم تلا هذه الآية (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلوٰةَ وَآتَى الزَّكَوٰةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) سوة البقرة، آية 177، أخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه(1). وقد ذهب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبوذر الغفاري وعائشة وابن عمر وأبوهريرة والحسن بن علي وفاطمة بنت قيس من الصحابة رضي الله عنهم، إلى أن في المال حقًا سوى الزكاة، استنادًا إلى هذه الآية الكريمة؛ فقد جعلت هذه الآية من أركان البرّ إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل... الخ، ثم عطف على ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والعطف كما هو معلوم يقتضي المغايرة، فدلّ ذلك على أن إيتاء المال غير إيتاء الزكاة. فالإيتاء الأول (وَآتىٰ الْمَالَ عَلىٰ حُبِّه) المراد به ما فوق النسبة المُقَدَّرَة في الزكاة، بدليل أنه ذكر بعده، كلمةَ الزكاة في الإيتاء الثاني (وَأَقَامَ الصَّلوٰةَ وَآتىٰ الزَّكَوٰةَ) بجانب الصلاة. قال القرطبي: استدلّ من قال: إن في المال حقًا سوى الزكاة، بقول الله تعالى (وَآتىٰ الْمَالَ عَلىٰ حُبِّه) وقوله عزّ وجلّ (وَأَقَامَ الصَّلوٰةَ وَآتىٰ الزَّكَوٰةَ) يدل على أن المراد بقوله (وَآتىٰ الْمَالَ عَلىٰ حُبِّه) ليس الزكاة المفروضة...(2) وقد كان أبوذر الغفاري رضي الله عنه يستدلّ بهذه الآية على وجوب إنفاق ما زاد عن الحاجة، وسُمِّيَ هذا الزائد كنزًا يعاقب كانزوه(3) وفي قوله تعالى في سورة الأنعام آية 141 (كُلُوْا مِنْ ثـَمَرِه إِذَا أَثـْمَرَ وَآتُوْا حَقَّه يَوْمَ حَصَادِه وَلاَ تُسْرِفُوْا إِنَّه لاَيُحِبُّ الْمُسْرِفِيْنَ) إشارة إلى أن الحقّ المأمور به في هذه الآية هو شيء غير الزكاة، وذلك من عدّة وجوه: أولها أن الآية مَكِّيَّة نزل قبل فرض العشر في المدينة. ثانيها أن المطلوب فيها إيتاء حق الثمر يومَ حصاده، وهذا لا يتأتّى في زكاة العشر؛ لأنه إنما يخرج بعد التصفية والتنقية، ليعرف مقدار الحاصل ثم يخرج عشره أو نصف عشره. ثالثها قوله تعالى (وَلاَ تُسْرِفُوْا إِنَّه لاَيُحِبُّ الْمُسْرِفِيْنَ) ولا إسراف في الزكاة، لأنها محدودة بتقدير الشارع، وليس لأحد أن ينقص منها أو يزيد فيها. قال ابن حزم: فإن قيل: فما هذا الحق المفترض في الآية؟ قلنا: نعم هو حق غير الزكاة، وهو أن يعطي الحاصد حين الحصد ما طابت به نفسه، ولا حد في ذلك، هذا ظاهر الآية، وهو قول طائفة من السلف؛ لهذا جاء عن ابن عمر في تفسير هذا الحق: كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة. قال ابن كثير: وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون، كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة القلم. والذي يعنينا هنا أن صحابيًا جليلاً كابن عمر وجماعة من فقهاء التابعين مثل عطاء ومجاهد والنخعي وغيرهم، يأخذون من هذه الآية دليلاً على أن في المال حقًا سوى الزكاة، قال تعالى (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّيْنَ الَّذِيْنَ هُمْ عَنْ صَلوٰتِهِمْ سَاهُوْنَ الَّذِيْنَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُوْنَ الْمَاعُوْنَ) سورة الماعون الآيات 4-8. وقد روى أبوداود عن عبد الله بن مسعود، قوله: كنا نعد الماعونَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاريةَ الدلو والقدر. ومعنى هذا أن إعارة هذه الأشياء الصغيرة التي يحتاج إليها الجيران بعضهم من بعض واجبة، لأن مانعها مذموم مستحق للويل، كالساهي عن الصلاة المرائي، ولايستحق المُكَلّف الويل إلا على ترك واجب، وإذا ثبت أن إعارة هذه الأشياء واجبة وهي غير الزكاة قطعًا، فقد ثبت أن في المال حقًا سوى الزكاة(5) وفي النصوص الجمّة، التي أوجبت التعاون والتكافل والتراحم بين المسلمين، وفرضت إطعام المسكين والحض عليه، وجعلت ذلك من ثمرات الأخوّة، ومقتضيات الإيمان والإسلام، كقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوْا عَلىٰ الْبِرِّ وَالتَّقْوٰى وَلاَ تَعَاوَنُوْا عَلىٰ الإِثـْمِ وَالْعُدْوَانِ) سورة المائدة آية2، وقوله تعالى في وصف المؤمنين (رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ) آخر سورة الفتح، وفي بيان العقبة التي على كل إنسان أن يجتازها لينال مثوبة الله، ويكون من أصحاب الميمنة، في قوله تعالى (فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثـُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) أواخر سورة البلد، وقوله عزّ وجلّ (وَآتِ ذَا الْقُرْبىٰ وَالْيَتَامىٰ وَالْمِسْكِيْنَ وَابْنَ السَّبِيْلِ) سورة الإسراء آية 26، وقال سبحانه (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) سورة النساء آية 36. وقوله تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) سورة الماعون، وقوله في أسباب دخول المجرمين في سقر (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّيْنَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِيْنَ) سورة المدثر الآيات 43-44، وفي شأن من أُوْتِيَ كتابَه بشماله فاستحقَّ الجحيم والعذاب الأليم (إِنَّه كَانَ لاَيُوْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيْمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلىٰ طَعَامِ الْمِسْكِيْنَ) سورة الحاقة الآيات 22-23. كل هذه الآيات السابقة تدل على أن في المال حقًا سوى الزكاة(6). وفي سورة الشورى الآيات 36-38 قال تعالى: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). وقد اختلف المفسّرون في تحديد المراد من ذلك الإنفاق، فقيل: هو الزكاة المفروضة، ويُرْوٰى هذا عن ابن عباس، لقرن الإنفاق بإقامة الصلاة، وقيل هو صدقة التطوُّع، ورُوِيَ هذا عن الضحاك، نظرًا إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المُخْتَصِّ بها، وقيل: هو النفقة على الأهل والعيال، وقيل: هو عامّ يشمل ذلك كلَّه، وهذا هو الصحيح الذي ينبغي أن تُفْهَم الآيات في ضوئه، فالأمر أوسع وأعمّ من زكاة الفريضة أو صدقة التطوع أو النفقة على الأهل(7) كما أن الإسلام قد فَرَضَ على المسلمين، الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، في مثل قوله تعالى ((اِنْفِرُوْا خِفَافًا وَّثِقَالاً وَّجَاهِدُوْا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيْلِ اللهِ) سورة التوبة آية 41 (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) سورة الحجرات آية 15 (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) سورة البقرة آية 195. ولا شكّ أن الجهاد بالمال المأمور به واجب آخر غير فريضة الزكاة، ومن حق أولي الأمر في المسلمين أن يحددوا نصيب كل فرد قادر من عبء الجهاد بالمال(8).

       كما جاءت عدّة أحاديث صحيحة تدل على أن في المال حقًا سوى الزكاة، منها ما رواه النسائي عن جابر بن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لايؤدّي حقَّها إلا وقف لهايوم القيامة بقاع قرقر "أرض مستوية ملساء" تطؤه ذات الأظلاف بأظلافها وتنطحه ذات القرون بقرونها وليس فيها يومئذ جماء "لاقرن لها" ولا مكسورة القرن) قلنا: يا رسول الله وماذا حقها؟. قال عليه الصلاة والسلام (إطراق فحلها وإعارة دلوها وحمل عليها في سبيل الله) ومعنى إطراق فحلها: إعارته للضراب لايمنعه ممن طلبه، وإعارة دلوها لإخراج الماء من البئر لمن يحتاج إليه ولا دلو معه، والحمل عليها في سبيل الله إركاب من لا ركوبة معه من المجاهدين. ووجه دلالة هذا الحديث على المراد: أنه رَتَّبَ الوعيد على منع الحقوق المذكورة، فدل على أنها حقوق واجبة، وهي حقوق أخرى غير الزكاة، ولهذا قال ابن حزم: وفرض على كل ذي إبل وبقر وغنم أن يحلبها يوم ورودها على الماء، ويتصدق من لبنها بما طابت به نفسه. وقال أيضا: ومن قال: إنه لاحقّ في المال غير الزكاة فقد قال الباطل، ولا برهان على صحة قوله، لا من نص، ولا إجماع، وكل ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأموال، فهو واجب. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر. فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله "أي للجهاد" إلى أن قال: ورجل ربطها تغنيًا وتعففًا ثم لم ينس حقَّ الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياءً نواءً "أي مناوأة" لأهل الإسلام فهي على ذلك ورز) وعن أبي شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكْرِم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجة. والأمر بإكرام الضيف يدل على الوجوب بدليل تعليق الإيمان عليه، وبدليل جعل ما بعد الثلاثة الأيام صدقة. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه) رواه أحمد ورواته ثقات والحاكم. وهذان الحديثان يدلان دلالة واضحة، على أن للضيف الطارق، حقًا أكيدًا في مال أخيه المسلم الذي أضافه، ويجب على الجماعة معاونته ونصره حتى يأخذ هذا الحقّ المؤكّد، وواضح أن هذا الحقّ شيء غير الزكاة، لأن الزكاة إنما تجب في وقت خاص عند الحول أو الحصاد ونحو ذلك، والضيف يطرق في أية ساعة(9) وقال النبي عليه الصلاة والسلام (إذا بات مؤمن جائعًا فلا مال لأحد)(10) وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من لا يرحم الناس لايرحمه الله) ومن كان على فضلة "أي زيادة عن الحاجة" ورأى المسلم أخاه جائعًا عريان ضائعًا فلم يغثه، فما رحمه بلاشك. وعن عثمان النهدي: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حدثه: أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من زاد له) قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لاحقّ لأحد منا في فضل. وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم. ومن طريق أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطعموا الجائعٌ وعودوا المريضَ، وفكّوا العانيَ – أي الأسير و قال عمر رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء، فقسمتها على فقراء المهاجرين. وقال علي رضي الله عنه: إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا، أو عروا، وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة، ويعذبهم عليه (11) جاء رجل من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: أنا رجل ذومال كثير، وأهل وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق؟ وكيف أصنع؟. قال عليه الصلاة والسلام (تخرج زكاة مالك؛ فإنها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حق السائل والجار والمسكين) رواه أحمد عن أنس. فجعل للسائل والجار والمسكين حقًا بعد الزكاة، كما عطف صلة الأقارب على الزكاة، وهذا موافق لما جاء في القرآن (وَآتِ ذَا الْقُرْبىٰ حَقَّه وَالْمِسْكِيْنَ وَابْنَ السَّبِيْلِ) وموافق لما جاء في الحديث (للسائل حق وإن جاء على فرس) رواه أحمد. وقال صلى الله عليه وسلم (لن تؤمنوا حتى تراحموا) قالوا: رحيم يا رسول الله كلنا، قال (إنها ليست برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة) رواه الطبراني عن أبي موسى ورواته رواة الصحيح(12) يقول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه) رواه البخاري. فإذا تركه فريسةً للفقر والجوع فقد خذله وأسلمه: أي هزمه ودفعه إلى اليأس والمرض وارتكاب المحظور(13) وقد صور الرسول صلى الله عليه وسلم بأحاديثه حقيقة المجتمع الإسلامي ومبلغ تكافله وترابطه وتضامنه، فقال (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) متفق عليه. فليس المجتمع المسلم لبنات منفصلة متفرقة، وبعبارة أخرى ليس أبناء الإسلام أفرادًا متناثرين، كل منهم يعيش منفصلاً عن غيره، بل (مثل المسلمين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر) متفق عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع) رواه الطبراني والبيهقي وإسناده حسن (14).

       وصحّ عن الشعبي ومجاهد وطاووس وعطاء وغيرهم من التابعين، كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة(15) كما اتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة، بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداءُ أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع. قال الشيخ محمد عبده: في تفسير قوله تعالى (وَآتىٰ الْمَالَ عَلىٰ حُبِّه) هذا الإيتاءُ، غير إيتاء الزكاة، وهو ركن من أركان البرّ، وواجب كالزكاة، وذلك حيث تعرض الحاجة إلى البذل، في غير وقت أداء الزكاة، وهو لايشترط فيه نصاب معين، بل هو على حسب الاستطاعة. فهذا البذل من غير مال الزكاة لايتقيد بزمن ولا بامتلاك نصاب محدود، ولا يكون المبذول مقدارًا معينًا بالنسبة إلى ما يملك ككونه عشرًا أو ربع عشر أو عشر العشر مثلاً، وإنما هو أمر مطلق بالإحسان موكول إلى أريحية المُعْطِي وحالة المُعْطىٰ. قال ابن حزم: وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد، أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف، والشمس، وعيون المارة (16) ويوضح المستوى الذي يجب أن تحدّده الدولة للفقراء والذي يحقّ لها من أجله أن تَتَخَطّى حدودَ الزكاة المفروضة فتجبي الأموال اللازمة لتنفقها في هذا السبيل؛ فيقول: يقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للصيف والشتاء بمثل ذلك، وبمَسْكَن يُكِنُّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة. ونستدل من كلام ابن حزم على حق الفقراء في أموال الأغنياء بصورة عامّة غير محدودة بحدود الزكاة، وأنه إذا لم تكف الزكاة لسدّ حاجات الفقراء والمساكين فللسلطة العامة أن تأخذ منهم بعد الزكاة ما يمكنها من سدّ هذه الحاجات، وهذه الحاجات هي تحقيق المساكن الضرورية للفقراء، وتحقيق الأغذية الكافية لهم، وتحقيق الملابس الضرورية(17). وقال الرملي في شرح المنهاج: ومن فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين ككسوة عار وإطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال، على القادرين وهم من عنده زيادة على كفاية سنة لهم ولممونهم. وهل المراد من دفع ضرر من ذكر: ما يسد الرمق أم الكفاية؟ قولان ، أصحهما ثانيهما، فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على حسب ما يليق بالحال من شتاء وصيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناها كأجرة طبيب، وثمن دواء وخادم منقطع. وقال النووي وغيره من الشافعية: وجوب إعانة الجنود النظاميين من غير مال الزكاة، على الأغنياء إذا لم يكن في بيت المال ما يعطون منه. وقال القرطبي: اتّفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة يجب صرف المال إليها. وقال الشاطبي من المالكية: إذا خلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى المال يكفيهم فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء بما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال(18) يقول الغزالي: وإذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، وخيف من ذلك دخول العدو بلاد الإسلام، أو ثوران الفتنة من قبل أهل الشر، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند؛ لأنا نعلم أنه إذا تعارض شرّان أو ضرران، قصد الشرع دفع أشد الشررين، وأعظم الشَرَّيْن، وما يؤدّيه كل واحد منهم "أي من الأغنياء" قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله، لو خلت خطة الإسلام "أي بلاده" من ذي شوكة "أي حاكم قوي" يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور(19) وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلثمائة من الصحابة رضي الله عنهم أن زادهم فني، فأمرهم أبوعبيدة، فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء. فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة رضي الله عنهم ولا مخالف لهم منهم (20).

       مما سبق يتضح أن الزكاة هي الحق الثابت والدائم في المال، وهو حق واجب الأداء، ولو لم يجد فقير يستحق المواساة أوحاجة تستدعي المساهمة، فالفرد المسلم المالك للنصاب في الظروف العادية لايطالب بشيء في ماله غير الزكاة، فإذا أداها فقد قضى ما عليه، وليس عليه شيء آخر، إلا أن يطوع. فإذا لم يكن مال الزكاة كافيًا لسد حوائج الفقراء والمساكين، وعندما ينزل بالمسلمين من البلاء ما يجعلهم في حاجة إلى المزيد من المال، وجب في المال حق آخر سوى الزكاة، وهذا الحق لايتقيد ولا يتحدد إلا بالكفاية، ويجب على الأغنياء أن يسهموا بشيء من أموالهم لسد هذا الاحتياج طيبة به نفوسهم، فإذا لم يفعلوا وجب على الحاكم أن يحملهم على ذلك ولو بالقوة كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة، وهو العام الذي أجدبت فيه الأرض، وبخلت فيه السماء بمائها، وانتشر فيه الجوع انتشارًا مفجعًا(21). بشرط أن توزع أعباؤها على الناس بالعدل، بحيث لايرهق فريق من الرعية لحساب فريق آخر، ولا تحابى طائفة ويضاعف الواجب على طائفة أخرى، بغير مسوغ يقتضي ذلك، ولا يكفي أن تؤخذ بالحق، وتوزع أعباؤها على الناس بالعدل، ما لم يتم صرفها في المصالح العامة للأمة، لا في شهوات الحكام وأغراضهم الشخصية، وفي ترف أسرهم وخاصتهم، وفي رغبات أتباعهم والسائرين في ركابهم، ولايجوز أن ينفرد الإمام أو رئيس الدولة الأعلى فضلاً عن نوابه وولاته في الأقاليم بفرض هذه الأموال، وتحديد مقاديرها، وأخذها من الناس، بل لابدّ أن يتم ذلك بموافقة رجال الشورى وأهل الحلّ والعقد في الأمة (22).

*  *  *

المراجع :

(1)        فقه السنة السيد سابق ج1 ص 416.

(2)    فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص968 و 969 ؛ إسلام لا شيوعية عبد المنعم النمر ص285.

(3)        إسلام لا شيوعية عبد المنعم النمر ص285.

(4)        فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص971 و972.

(5)        فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص978.

(6)        فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص979 و980.

(7)        فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص860.

(8)        فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص1077.

(9)        فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص972 إلى 976.

(10)   لا للفقر في ظل القرآن أحمد سعيد ص89.

(11)   فقه السنة السيد سابق ج1 من ص 419 إلى ص421.

(12)   فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص989 و990.

(13)   الحقوق الإسلامية طه عبد الله العفيفي ص663.

(14)   فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص980.

(15)   فقه السنة السيد سابق ج1 ص421.

(16)   فقه السنة السيد سابق ج1 من ص416 إلى ص 419.

(17)   النظم المالية في الإسلام قطب إبراهيم محمد ص 55-56.

(18)   فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص 986-987.

(19)   فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 ص1076.

(20)   فقه السنة السيد سابق ج1 ص 421.

(21)   الحقوق الإسلامية طه عبد الله العفيفي ص 663.

(22)   فقه الزكاة دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة يوسف القرضاوي ج2 من ص 1081 إلى ص 1085.

 

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال  1429هـ = سبتمبر – أكتوبر  2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32

 



(*)    6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

      الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

      الجوّال : 0101284614

      Email: ashmon59@yahoo.com